الحمد لله الذي أمر بالصدق وأعد للصادقين والصادقات أجرا عظيما ، ونهى عن الكذب وتوعد الكاذبين بأن لهم عذابا أليما ...
والصلاة والسلام على رسول الله الذي رغب في الصدق وبين عقباه الحميدة ، ورهب من الكذب وزجر عنه ببيان عاقبته الوخيمة ...
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الصدق والوفاء وسلم تسليما ...
أما بعد ؛ إن الكذب مذموم كله ، بل محرَّم ، وأقبحه وأفظعه ، وأخبثه وأبشعه ، الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المومنين ...
1 *** الكذب على الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
من خلال تتبع الآيات البينات في محكم التنزيل الكريم ، نجد أن الباري عز وجل سمى الكاذبين بأسماء ووصفهم بأوصاف يُفهم منها بغضُه لهم ، ولقد أخبر سبحانه عن مصيرهم ... وبيس المصير !!!
* ليس هناك ظلم أعظم من الكذب على الله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام : 21 )... أي ليس هناك أظلم منه ... وبما أنه تقدست أسماؤه نفى الفلاح عن الظالمين ، نقول : ليس لهم في الآخرة حظ إلا الخسران المبين ...
* وشبيه بهذه الآية ، قوله سبحانه :(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (يونس : 17 )... ونفيه الفلاح عنهم هنا سببه أنهم ارتكبوا أم الجرائم ، ألا وهي : افتراء الكذب عليه تبارك وتعالى... ليس لهم إذن إلا البَوار ...
* مجرمون ... يدفعهم الكبر إلى الكذب على الله ... فكيف حالهم يوم النشور ؟ قال تعالى :( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر : 60 ) ...وجوه مسودة ، عليها غبرة ، ترهقها قترة ، ظلام ... . وظُلمة... ثم ... إلى السعير.
* والكذب على الله ذنب كبير ، بل بهتان عظيم ..وكفى به إثما ، كما قال الواحد القهار : ( انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً) (النساء : 50 ) ...
* مَن يفتري على الله الكذب كأن يجعل له صاحبة أو ولدا ، أو شركاء وأندادا ، أو يلحد في أسمائه ويطعن في صفاته ، أو يعترض عليه في أفعاله ، أو يرفض ما أنزل من أحكامه ، أو لا يأبهُ لأمره ولا لنهيه.... يشهد على نفسه بالكفر عند معاينة الموت ؛ قال تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الأعراف : 37 )... ولا مأوى لمن كفر إلا سقر.
* كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (العنكبوت : 68 ) وفي قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (الزمر : 32 ) ... بلى.. إن لهم فيها لمثوى... وقرا راً ... وبيس المثوى وبيس القرار .
* خلق ورزق ، وأسبغ نعمته ، ونشر رحمته ، هدى وأرشد ...، فمن يجرؤُ على الكذب عليه وهو ذو الطول ، شديد العقاب ، العزيز ذو انتقام ؟ قال تعالى : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل : 105 ) ... يجرؤ عليه الذين لا يومنون ... وهم الكاذبون ... والكذب في هذه الآية الكريمة مطلق ، لا يتعاطاه ويتحراه إلا من لا يومن بآيات الله ... فما الدافع إلى جريمة الكذب على الله ؟ إنه الغرق في وحل الغي ...
* يقابل المفترون إحسانَه العميم وفضلَه العظيم بالكذب عليه ... فما يا ترى ظنهم ببارئهم ؟ قال تعالى : ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ) (يونس : 60 )...استحبوا الكفر على الشكر ، واتبعوا آراءهم الباطلة وأهواءهم المريضة فتوعدهم الله على ذلك يوم القيامة فقال: ( وماظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ) أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم يرجعون إليه ؟... جزاء الكاذبين عليه العذاب ، لأن من سوء الظن بالله تعالى أن يحسب الكاذب أن الله لا يعلم سره ونجواه فيتمادى في عمله السيء الذي لا يخفى على الله منه شيء...من يكذب على الله وعلى رسوله والمومنين والناس أجمعين لا محالة عدو لله ، ويقول عز وجل في أعدائه الظانين به ظن السوء :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * ) ((فصلت : 19 - 25 )
* وقال تعالى : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام : 144 ) ... غرض المفتري على الله صد العباد عن صراط ربهم ... وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ... وهنا نفى عنهم العلم وأكَّد أنه سبحانه لا يهديهم ... لظلمهم ... ذي حكمته عز وجل :( لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)...ليس لهم عنده إلا اللعنة ...
* قال تعالى :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود : 18 )... بعد شهادة الأشهاد، اللعنة ...طرد ورجم وإبعاد.. وذاك جزاء الظالمين ... العذاب والخيبة ...
* وقال تعالى :( قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طه : 61 ) ... ما قاله موسى عليه السلام لقومه قاله كل نبي لأمته لأن الدين لا يستقيم إلا بالصدق ، الصدق الذي حلاهم ووصفهم به ، كما قال في خليله إبراهيم عليه السلام : (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) (مريم : 41 ) )... وجعل الصديقين في زمرة من أنعم علهم ، قال : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء : 69 )... فحي على الصدق عباد الله ... وإياكم ثم إياكم و الكذب على الله وعلى رسوله والمومنين فإنه محرم شرعا ... ويسوق أهله إلى غضب الله وسخطه ...
* وقال تعالى : ( فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) ؟؟؟؟ (الكهف : 15 )... لا أحد أظلم منه ... لأنه ناتج عن مرض في القلب ؛ قال تعالى :( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (البقرة : 10 )...مرض يزداد ويستفحل إن لم يتداركه صاحبه بتوبة نصوح يستوفي كل شروطها...
* وقال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) (التوبة : 77 ) ... إن الكذب يؤول بمتحريه إلى النفاق ، وأخبرنا ربنا عن مآل المنافقين ، قال : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (النساء : 145 ) ...
2 *** الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق إلى مقعد في النار
٭ حديث :( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ )... رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن وغيرهم...
٭ من مرويات البخاري في صحيحه - قال :
1 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ...
2 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ : إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟قَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ...
3 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ...
4 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار ...
5 - ِحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ...
6- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ...
7- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ...
8- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ قَالَ ، سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ...
٭ قال ابن حجرالعسقلاني رحمه الله في فتح الباري..
قَوْل البخاري : ( بَاب إِثْم مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي فِي الْبَاب تَصْرِيح بِالْإِثْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَاد مِنْ الْوَعِيد بِالنَّارِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَازِمه .
٭ وقال في شرح حديث علي رضي الله عنه :
- قَوْله : ( لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ) هُوَ عَامّ فِي كُلّ كَاذِب ، مُطْلَق فِي كُلّ نَوْع مِنْ الْكَذِب ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوا الْكَذِب إِلَيَّ . وَلَا مَفْهُوم لِقَوْلِهِ : " عَلَيَّ " لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّر أَنْ يُكْذَب لَهُ لِنَهْيِهِ عَنْ مُطْلَق الْكَذِب . وَقَدْ اِغْتَرَّ قَوْم مِنْ الْجَهَلَة فَوَضَعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب وَقَالُوا : نَحْنُ لَمْ نَكْذِب عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَته ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ تَقْوِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِب عَلَى اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حُكْم مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة سَوَاء كَانَ فِي الْإِيجَاب أَوْ النَّدْب ، وَكَذَا مُقَابِلهمَا وَهُوَ الْحَرَام وَالْمَكْرُوه . وَلَا يُعْتَدّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْكَرَامِيَّة حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْع الْكَذِب فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب فِي تَثْبِيت مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كَذِب لَهُ لَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَهْل بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّة . وَتَمَسَّكَ بَعْضُهمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث مِنْ زِيَادَة لَمْ تَثْبُت وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلّ بِهِ النَّاس " الْحَدِيث ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم إِرْسَاله ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيث يَعْلَى بْن مُرَّة بِسَنَدٍ ضَعِيف ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَتْ اللَّام فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : ( فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا لِيُضِلّ النَّاس ) وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيص بَعْض أَفْرَاد الْعُمُوم بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة ) -وقوله :( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ مِنْ إِمْلَاق ) فَإِنَّ قَتْل الْأَوْلَاد وَمُضَاعَفَة الرِّبَا وَالْإِضْلَال فِي هَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْر فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْم .
- قَوْله : ( فَلْيَلِجْ النَّار ) جَعَلَ الْأَمْر بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنْ الْكَذِب ؛ لِأَنَّ لَازِم الْأَمْر الْإِلْزَام وَالْإِلْزَام بِوُلُوجِ النَّار سَبَبه الْكَذِب عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بِلَفْظِ الْأَمْر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق غُنْدَر عَنْ شُعْبَة بِلَفْظِ " مَنْ يَكْذِب عَلَيَّ يَلِج النَّار " وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيق شَرِيك عَنْ مَنْصُور قَالَ : " الْكَذِب عَلَيَّ يُولِج - أَيْ : يُدْخِل - النَّار " ...
٭ وقال في شرح حديث الزبير
- قَوْله : ( أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقهُ ) أَيْ لَمْ أُفَارِق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : " مُنْذُ أَسْلَمْت " وَالْمُرَاد فِي الْأَغْلَب وَإِلَّا فَقَدْ هَاجَرَ الزُّبَيْر إِلَى الْحَبَشَة ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَال هِجْرَته إِلَى الْمَدِينَة . وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَام عَلَى سَبِيل التَّوْجِيه لِلسُّؤَالِ ؛ لِأَنَّ لَازِم الْمُلَازَمَة السَّمَاع ، وَلَازِمه عَادَة التَّحْدِيث ، لَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا خَشِيَهُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَلِهَذَا أَتَى بِقَوْلِهِ : " لَكِنْ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ الزُّبَيْر بْن بَكَّار فِي كِتَاب النَّسَب مِنْ وَجْه آخَر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر قَالَ : " عَنَانِي ذَلِكَ " يَعْنِي قِلَّة رِوَايَة الزُّبَيْر : " فَسَأَلْته " أَيْ : عَنْ ذَلِكَ " فَقَالَ : يَا بُنَيّ ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنه مِنْ الْقَرَابَة وَالرَّحِم مَا عَلِمْت ، وَعَمَّته أُمِّي ، وَزَوْجَته خَدِيجَة عَمَّتِي ، وَأُمّه آمِنَة بِنْت وَهْب وَجَدَّتِي هَالَة بِنْت وُهَيْب اِبْنَيْ عَبْد مَنَاف بْن زُهْرَة ،وَعِنْدِي أُمّك ،وَأُخْتهَا عَائِشَة عِنْده ،وَلَكِنِّي سَمِعْته يَقُول "
( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ )...كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ لَيْسَ فِيهِ " مُتَعَمِّدًا " وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق غُنْدَر عَنْ شُعْبَة ، وَكَذَا فِي رِوَايَة الزُّبَيْر بْن بَكَّار الْمَذْكُورَة ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيقه وَزَادَ فِيهِ " مُتَعَمِّدًا " وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيق مُعَاذ عَنْ شُعْبَة ، وَالِاخْتِلَاف فِيهِ عَلَى شُعْبَة . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر بِلَفْظِ : " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا " وَلَمْ يَذْكُر الْعَمْد . وَفِي تَمَسُّك الزُّبَيْر بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ اِخْتِيَار قِلَّة التَّحْدِيث دَلِيل لِلْأَصَحِّ فِي أَنَّ الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأ ، وَالْمُخْطِئ وَإِنْ كَانَ غَيْر مَأْثُوم بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الزُّبَيْر خَشِيَ مِنْ الْإِكْثَار أَنْ يَقَع فِي الْخَطَأ وَهُوَ لَا يَشْعُر ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَم بِالْخَطَأِ لَكِنْ قَدْ يَأْثَم بِالْإِكْثَارِ إِذْ الْإِكْثَار مَظنَّة الْخَطَأ ، وَالثِّقَة إِذَا حَدَّثَ بِالْخَطَأِ فَحُمِلَ عَنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُر أَنَّهُ خَطَأ يُعْمَل بِهِ عَلَى الدَّوَام لِلْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ ، فَيَكُون سَبَبًا لِلْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ الشَّارِع ، فَمَنْ خَشِيَ مِنْ إِكْثَار الْوُقُوع فِي الْخَطَأ لَا يُؤْمَن عَلَيْهِ الْإِثْم إِذَا تَعَمَّدَ الْإِكْثَار ، فَمِنْ ثَمَّ تَوَقَّفَ الزُّبَيْر وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة عَنْ الْإِكْثَار مِنْ التَّحْدِيث . وَأَمَّا مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا وَاثِقِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ بِالتَّثَبُّتِ ، أَوْ طَالَتْ أَعْمَارهمْ فَاحْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدهمْ فَسُئِلُوا فَلَمْ يُمْكِنهُمْ الْكِتْمَان . رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .
- قَوْله : ( فَلْيَتَبَوَّأْ ) أَيْ فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا ، يُقَال تَبَوَّأَ الرَّجُل الْمَكَان إِذَا اِتَّخَذَهُ سَكَنًا ، وَهُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر أَيْضًا ، أَوْ بِمَعْنَى التَّهْدِيد ، أَوْ بِمَعْنَى التَّهَكُّم ، أَوْ دُعَاء عَلَى فَاعِل ذَلِكَ أَيْ : بَوَّأَهُ اللَّه ذَلِكَ . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْأَمْر عَلَى حَقِيقَته ، وَالْمَعْنَى مَنْ كَذَبَ فَلْيَأْمُرْ نَفْسه بِالتَّبَوُّءِ وَيَلْزَم عَلَيْهِ كَذَا ، قَالَ : وَأَوَّلهَا أَوْلَاهَا ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ اِبْن عُمَر بِلَفْظِ " بُنِيَ لَهُ بَيْت فِي النَّار " قَالَ الطِّيبِيّ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَعْنَى الْقَصْد فِي الذَّنْب وَجَزَائِهِ ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْكَذِب التَّعَمُّد فَلْيَقْصِدْ بِجَزَائِهِ التَّبَوُّء.
٭ وقال في شرح حديث أبي هريرة :
- وَقَدْ اِقْتَصَرَ مُسْلِم فِي رِوَايَته لَهُ عَلَى الْجُمْلَة الْأَخِيرَة وَهِيَ مَقْصُود الْبَاب ، وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُؤَلِّف بِتَمَامِهِ وَلَمْ يَخْتَصِرهُ كَعَادَتِهِ لِيُنَبِّه عَلَى أَنَّ الْكَذِب عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَوِي فِيهِ الْيَقَظَة وَالْمَنَام . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم . فَإِنْ قِيلَ : الْكَذِب مَعْصِيَة إِلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الْإِصْلَاح وَغَيْره ، وَالْمَعَاصِي قَدْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ ، فَمَا الَّذِي اِمْتَازَ بِهِ الْكَاذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَعِيد عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى غَيْره ؟ فَالْجَوَاب عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْكَذِب عَلَيْهِ يَكْفُر مُتَعَمُّده عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم ، وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ اِبْنه إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ بَعْده ، وَمَالَ اِبْن الْمُنِير إِلَى اِخْتِيَاره ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَاذِب عَلَيْهِ فِي تَحْلِيل حَرَام مَثَلًا لَا يَنْفَكّ عَنْ اِسْتِحْلَال ذَلِكَ الْحَرَام أَوْ الْحَمْل عَلَى اِسْتِحْلَاله ، وَاسْتِحْلَال الْحَرَام كُفْر ، وَالْحَمْل عَلَى الْكُفْر كُفْر . وَفِيمَا قَالَهُ نَظَر لَا يَخْفَى ، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُر إِلَّا إِذَا اِعْتَقَدَ حِلّ ذَلِكَ . الْجَوَاب الثَّانِي أَنَّ الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة وَالْكَذِب عَلَى غَيْره صَغِيرَة فَافْتَرَقَا ، وَلَا يَلْزَم مِنْ اِسْتِوَاء الْوَعِيد فِي حَقّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ كَذَبَ عَلَى غَيْره أَنْ يَكُون مَقَرّهمَا وَاحِدًا أَوْ طُول إِقَامَتهمَا سَوَاء ، فَقَدْ دَلَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَلْيَتَبَوَّأْ " عَلَى طُول الْإِقَامَة فِيهَا ، بَلْ ظَاهِره أَنَّهُ لَا يَخْرُج مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل لَهُ مَنْزِلًا غَيْره ، إِلَّا أَنَّ الْأَدِلَّة الْقَطْعِيَّة قَامَتْ عَلَى أَنَّ خُلُود التَّأْبِيد مُخْتَصّ بِالْكَافِرِينَ ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْكَذِب عَلَيْهِ وَبَيْن الْكَذِب عَلَى غَيْره كَمَا فِي حَدِيث الْمُغِيرَة حَيْثُ يَقُول " إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَد " ...
* وقال في شرح حديث المغيرة
قوله: ( إن كذبا علي ليس ككذب على أحد أي غيري) ومعناه أن الكذب على الغير قد ألف واستسهل خطبه وليس الكذب على بالغا مبلغ ذاك في السهولة وأن كان دونه في السهوله فهو أشد منه في الإثم ...وكذا لا يلزم من اثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أن يكون الكذب على غيره مباحا بل يستدل على تحريم الكذب على غيره بدليل آخر والفرق بينهما أن الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره .
( تَنْبِيه ) :
رَتَّبَ الْمُصَنِّف أَحَادِيث الْبَاب تَرْتِيبًا حَسَنًا لِأَنَّهُ بَدَأَ بِحَدِيثِ عَلِيّ وَفِيهِ مَقْصُود الْبَاب ، وَثَنَّى بِحَدِيثِ الزُّبَيْر الدَّالّ عَلَى تَوَقِّي الصَّحَابَة وَتَحَرُّزهمْ مِنْ الْكَذِب عَلَيْهِ ، وَثَلَّثَ بِحَدِيثِ أَنَس الدَّالّ عَلَى أَنَّ اِمْتِنَاعهمْ إِنَّمَا كَانَ مِنْ الْإِكْثَار الْمُفْضِي إِلَى الْخَطَأ لَا عَنْ أَصْل التَّحْدِيث ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ ، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة الَّذِي فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى اِسْتِوَاء تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ سَوَاء كَانَتْ دَعْوَى السَّمَاع مِنْهُ فِي الْيَقِظَة أَوْ فِي الْمَنَام . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ حَدِيث : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ " أَيْضًا مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة وَهُوَ فِي الْجَنَائِز ، وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَهُوَ فِي أَخْبَار بَنِي إِسْرَائِيل ، وَمِنْ حَدِيث وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع وَهُوَ فِي مَنَاقِب قُرَيْش ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ بِلَفْظِ الْوَعِيد بِالنَّارِ صَرِيحًا . وَاتَّفَقَ مُسْلِم مَعَهُ عَلَى تَخْرِيج حَدِيث عَلِيّ وَأَنَس وَأَبِي هُرَيْرَة وَالْمُغِيرَة ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد أَيْضًا ، وَصَحَّ أَيْضًا فِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُثْمَان بْن عَفَّان وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَأَبِي قَتَادَة وَجَابِر وَزَيْد بْن أَرْقَم ، وَوَرَدَ بِأَسَانِيد حِسَان مِنْ حَدِيث طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَسَعِيد بْن زَيْد وَأَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعُقْبَة بْن عَامِر وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ وَابْن عَبَّاس وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَمُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَرَافِع بْن خَدِيج وَطَارِق الْأَشْجَعِيّ وَالسَّائِب بْن يَزِيد وَخَالِد بْن عُرْفُطَة وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي قِرْصَافَة وَأَبِي مُوسَى الْغَافِقِيّ وَعَائِشَة ، فَهَؤُلَاءِ [ ثَلَاثَة وَ ] ثَلَاثُونَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَة...
3 *** الكذب على المومنين...
- قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة : 119 )... أمر سبحانه عباده المومنين بتقواه والكينونة مع أهل الصدق ؛ وبما أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فإن قوله : (وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) يفهم منه : ولا تكونوا مع الكاذبين ...
- ولقد بيَّـن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقبة الصدق ورغَّب فيه ، وعاقبة الكذب وحذَّر منه ، فعن...الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا . = رواه مسلم =..
- وفي حديث آخر... عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: الصِّدْقُ... وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ... قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَمَلُ النَّارِ ؟ قَالَ: الْكَذِبُ... إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ...= أحمد =
- عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أنه كَانَ يَقُولُ : لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ كُلُّهُ فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَاذِبِينَ = مالك =
- فمن أراد أن يطمئن فعليه بالصدق...الصدق ثم الصدق ... وليدع الكذب فهو السبيل إلى الشك والإرتياب .. عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ،فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ... وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ... = الترمذي ، وقال : حَسَنٌ صَحِيحٌ =
- أضف إلى هذا أن الكذب خالٍ تماماً من الخير ... روى ماك في الموطأ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ حديث الرجل الذي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْذِبُ امْرَأَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ ...
- فليُتركِ الكذب ...ومن يتركه امتثالاً لأمر الله وطاعةً لرسول الله فيما بيَّن ، فقد ضمِن له بيتاً في النعيم... عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ = أبو داود =
- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا ... = الترمذي
- قال أَبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ = أحمد = قلت ، نعم .. إن الكذب مجانب للإيمان ... فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحَةِ ، وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ...
*** ونختم هذه االرحلة المباركة عبر كتاب الله وسنة رسوله ، اطلعنا من خلالها على تحريم الكذب على الله وعلى رسوله والمومنين ، وما جاء فيه من وعيد ، بحديث رواه ابن حبان في صحيحه ، قال : أخبرنا عمر بن محمد الهمداني ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : « ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما تزال في نفسه ، حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة » ...
- كان صلى الله عليه وسلم يبغض الكذب ، لأنه علامة من علامات النفاق ، قال : أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا : مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ...وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا .. = رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا =
تنبيه : لم أتطرق لما فيه رخصة ، لأن ذاك باب آخر ... وأكتفي بإشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا ...قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ...
- وحديث أحمد ، قال : عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَابَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَابَعُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ ؟ كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ رَجُلٌ كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا ....
-وحديث حميد عن أمه رضي الله عنهما رواه الترمذي ، قالت : مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ... كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :لَا أَعُدُّهُ كَاذِبًا الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ يَقُولُ الْقَوْلَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ فِي الْحَرْبِ ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زوجها...
انتهى
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين
والصلاة والسلام على رسول الله الذي رغب في الصدق وبين عقباه الحميدة ، ورهب من الكذب وزجر عنه ببيان عاقبته الوخيمة ...
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الصدق والوفاء وسلم تسليما ...
أما بعد ؛ إن الكذب مذموم كله ، بل محرَّم ، وأقبحه وأفظعه ، وأخبثه وأبشعه ، الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المومنين ...
1 *** الكذب على الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
من خلال تتبع الآيات البينات في محكم التنزيل الكريم ، نجد أن الباري عز وجل سمى الكاذبين بأسماء ووصفهم بأوصاف يُفهم منها بغضُه لهم ، ولقد أخبر سبحانه عن مصيرهم ... وبيس المصير !!!
* ليس هناك ظلم أعظم من الكذب على الله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام : 21 )... أي ليس هناك أظلم منه ... وبما أنه تقدست أسماؤه نفى الفلاح عن الظالمين ، نقول : ليس لهم في الآخرة حظ إلا الخسران المبين ...
* وشبيه بهذه الآية ، قوله سبحانه :(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (يونس : 17 )... ونفيه الفلاح عنهم هنا سببه أنهم ارتكبوا أم الجرائم ، ألا وهي : افتراء الكذب عليه تبارك وتعالى... ليس لهم إذن إلا البَوار ...
* مجرمون ... يدفعهم الكبر إلى الكذب على الله ... فكيف حالهم يوم النشور ؟ قال تعالى :( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر : 60 ) ...وجوه مسودة ، عليها غبرة ، ترهقها قترة ، ظلام ... . وظُلمة... ثم ... إلى السعير.
* والكذب على الله ذنب كبير ، بل بهتان عظيم ..وكفى به إثما ، كما قال الواحد القهار : ( انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً) (النساء : 50 ) ...
* مَن يفتري على الله الكذب كأن يجعل له صاحبة أو ولدا ، أو شركاء وأندادا ، أو يلحد في أسمائه ويطعن في صفاته ، أو يعترض عليه في أفعاله ، أو يرفض ما أنزل من أحكامه ، أو لا يأبهُ لأمره ولا لنهيه.... يشهد على نفسه بالكفر عند معاينة الموت ؛ قال تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) (الأعراف : 37 )... ولا مأوى لمن كفر إلا سقر.
* كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (العنكبوت : 68 ) وفي قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ) (الزمر : 32 ) ... بلى.. إن لهم فيها لمثوى... وقرا راً ... وبيس المثوى وبيس القرار .
* خلق ورزق ، وأسبغ نعمته ، ونشر رحمته ، هدى وأرشد ...، فمن يجرؤُ على الكذب عليه وهو ذو الطول ، شديد العقاب ، العزيز ذو انتقام ؟ قال تعالى : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل : 105 ) ... يجرؤ عليه الذين لا يومنون ... وهم الكاذبون ... والكذب في هذه الآية الكريمة مطلق ، لا يتعاطاه ويتحراه إلا من لا يومن بآيات الله ... فما الدافع إلى جريمة الكذب على الله ؟ إنه الغرق في وحل الغي ...
* يقابل المفترون إحسانَه العميم وفضلَه العظيم بالكذب عليه ... فما يا ترى ظنهم ببارئهم ؟ قال تعالى : ( وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ) (يونس : 60 )...استحبوا الكفر على الشكر ، واتبعوا آراءهم الباطلة وأهواءهم المريضة فتوعدهم الله على ذلك يوم القيامة فقال: ( وماظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ) أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم يرجعون إليه ؟... جزاء الكاذبين عليه العذاب ، لأن من سوء الظن بالله تعالى أن يحسب الكاذب أن الله لا يعلم سره ونجواه فيتمادى في عمله السيء الذي لا يخفى على الله منه شيء...من يكذب على الله وعلى رسوله والمومنين والناس أجمعين لا محالة عدو لله ، ويقول عز وجل في أعدائه الظانين به ظن السوء :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * ) ((فصلت : 19 - 25 )
* وقال تعالى : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام : 144 ) ... غرض المفتري على الله صد العباد عن صراط ربهم ... وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ... وهنا نفى عنهم العلم وأكَّد أنه سبحانه لا يهديهم ... لظلمهم ... ذي حكمته عز وجل :( لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)...ليس لهم عنده إلا اللعنة ...
* قال تعالى :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود : 18 )... بعد شهادة الأشهاد، اللعنة ...طرد ورجم وإبعاد.. وذاك جزاء الظالمين ... العذاب والخيبة ...
* وقال تعالى :( قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طه : 61 ) ... ما قاله موسى عليه السلام لقومه قاله كل نبي لأمته لأن الدين لا يستقيم إلا بالصدق ، الصدق الذي حلاهم ووصفهم به ، كما قال في خليله إبراهيم عليه السلام : (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) (مريم : 41 ) )... وجعل الصديقين في زمرة من أنعم علهم ، قال : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء : 69 )... فحي على الصدق عباد الله ... وإياكم ثم إياكم و الكذب على الله وعلى رسوله والمومنين فإنه محرم شرعا ... ويسوق أهله إلى غضب الله وسخطه ...
* وقال تعالى : ( فمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) ؟؟؟؟ (الكهف : 15 )... لا أحد أظلم منه ... لأنه ناتج عن مرض في القلب ؛ قال تعالى :( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (البقرة : 10 )...مرض يزداد ويستفحل إن لم يتداركه صاحبه بتوبة نصوح يستوفي كل شروطها...
* وقال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) (التوبة : 77 ) ... إن الكذب يؤول بمتحريه إلى النفاق ، وأخبرنا ربنا عن مآل المنافقين ، قال : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (النساء : 145 ) ...
2 *** الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق إلى مقعد في النار
٭ حديث :( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ )... رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن وغيرهم...
٭ من مرويات البخاري في صحيحه - قال :
1 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ...
2 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ : إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟قَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ...
3 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ...
4 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار ...
5 - ِحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ...
6- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ...
7- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ...
8- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا حَرِيزٌ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّصْرِيُّ قَالَ ، سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ...
٭ قال ابن حجرالعسقلاني رحمه الله في فتح الباري..
قَوْل البخاري : ( بَاب إِثْم مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي فِي الْبَاب تَصْرِيح بِالْإِثْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَاد مِنْ الْوَعِيد بِالنَّارِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَازِمه .
٭ وقال في شرح حديث علي رضي الله عنه :
- قَوْله : ( لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ) هُوَ عَامّ فِي كُلّ كَاذِب ، مُطْلَق فِي كُلّ نَوْع مِنْ الْكَذِب ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوا الْكَذِب إِلَيَّ . وَلَا مَفْهُوم لِقَوْلِهِ : " عَلَيَّ " لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّر أَنْ يُكْذَب لَهُ لِنَهْيِهِ عَنْ مُطْلَق الْكَذِب . وَقَدْ اِغْتَرَّ قَوْم مِنْ الْجَهَلَة فَوَضَعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب وَقَالُوا : نَحْنُ لَمْ نَكْذِب عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَته ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ تَقْوِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِب عَلَى اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حُكْم مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة سَوَاء كَانَ فِي الْإِيجَاب أَوْ النَّدْب ، وَكَذَا مُقَابِلهمَا وَهُوَ الْحَرَام وَالْمَكْرُوه . وَلَا يُعْتَدّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْكَرَامِيَّة حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْع الْكَذِب فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب فِي تَثْبِيت مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كَذِب لَهُ لَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَهْل بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّة . وَتَمَسَّكَ بَعْضُهمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث مِنْ زِيَادَة لَمْ تَثْبُت وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلّ بِهِ النَّاس " الْحَدِيث ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم إِرْسَاله ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيث يَعْلَى بْن مُرَّة بِسَنَدٍ ضَعِيف ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَتْ اللَّام فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : ( فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا لِيُضِلّ النَّاس ) وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيص بَعْض أَفْرَاد الْعُمُوم بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة ) -وقوله :( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ مِنْ إِمْلَاق ) فَإِنَّ قَتْل الْأَوْلَاد وَمُضَاعَفَة الرِّبَا وَالْإِضْلَال فِي هَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْر فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْم .
- قَوْله : ( فَلْيَلِجْ النَّار ) جَعَلَ الْأَمْر بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنْ الْكَذِب ؛ لِأَنَّ لَازِم الْأَمْر الْإِلْزَام وَالْإِلْزَام بِوُلُوجِ النَّار سَبَبه الْكَذِب عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بِلَفْظِ الْأَمْر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق غُنْدَر عَنْ شُعْبَة بِلَفْظِ " مَنْ يَكْذِب عَلَيَّ يَلِج النَّار " وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيق شَرِيك عَنْ مَنْصُور قَالَ : " الْكَذِب عَلَيَّ يُولِج - أَيْ : يُدْخِل - النَّار " ...
٭ وقال في شرح حديث الزبير
- قَوْله : ( أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقهُ ) أَيْ لَمْ أُفَارِق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : " مُنْذُ أَسْلَمْت " وَالْمُرَاد فِي الْأَغْلَب وَإِلَّا فَقَدْ هَاجَرَ الزُّبَيْر إِلَى الْحَبَشَة ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَال هِجْرَته إِلَى الْمَدِينَة . وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَام عَلَى سَبِيل التَّوْجِيه لِلسُّؤَالِ ؛ لِأَنَّ لَازِم الْمُلَازَمَة السَّمَاع ، وَلَازِمه عَادَة التَّحْدِيث ، لَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا خَشِيَهُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَلِهَذَا أَتَى بِقَوْلِهِ : " لَكِنْ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ الزُّبَيْر بْن بَكَّار فِي كِتَاب النَّسَب مِنْ وَجْه آخَر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر قَالَ : " عَنَانِي ذَلِكَ " يَعْنِي قِلَّة رِوَايَة الزُّبَيْر : " فَسَأَلْته " أَيْ : عَنْ ذَلِكَ " فَقَالَ : يَا بُنَيّ ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنه مِنْ الْقَرَابَة وَالرَّحِم مَا عَلِمْت ، وَعَمَّته أُمِّي ، وَزَوْجَته خَدِيجَة عَمَّتِي ، وَأُمّه آمِنَة بِنْت وَهْب وَجَدَّتِي هَالَة بِنْت وُهَيْب اِبْنَيْ عَبْد مَنَاف بْن زُهْرَة ،وَعِنْدِي أُمّك ،وَأُخْتهَا عَائِشَة عِنْده ،وَلَكِنِّي سَمِعْته يَقُول "
( مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ )...كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ لَيْسَ فِيهِ " مُتَعَمِّدًا " وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق غُنْدَر عَنْ شُعْبَة ، وَكَذَا فِي رِوَايَة الزُّبَيْر بْن بَكَّار الْمَذْكُورَة ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيقه وَزَادَ فِيهِ " مُتَعَمِّدًا " وَكَذَا لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيق مُعَاذ عَنْ شُعْبَة ، وَالِاخْتِلَاف فِيهِ عَلَى شُعْبَة . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر بِلَفْظِ : " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا " وَلَمْ يَذْكُر الْعَمْد . وَفِي تَمَسُّك الزُّبَيْر بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ اِخْتِيَار قِلَّة التَّحْدِيث دَلِيل لِلْأَصَحِّ فِي أَنَّ الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأ ، وَالْمُخْطِئ وَإِنْ كَانَ غَيْر مَأْثُوم بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الزُّبَيْر خَشِيَ مِنْ الْإِكْثَار أَنْ يَقَع فِي الْخَطَأ وَهُوَ لَا يَشْعُر ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَم بِالْخَطَأِ لَكِنْ قَدْ يَأْثَم بِالْإِكْثَارِ إِذْ الْإِكْثَار مَظنَّة الْخَطَأ ، وَالثِّقَة إِذَا حَدَّثَ بِالْخَطَأِ فَحُمِلَ عَنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُر أَنَّهُ خَطَأ يُعْمَل بِهِ عَلَى الدَّوَام لِلْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ ، فَيَكُون سَبَبًا لِلْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ الشَّارِع ، فَمَنْ خَشِيَ مِنْ إِكْثَار الْوُقُوع فِي الْخَطَأ لَا يُؤْمَن عَلَيْهِ الْإِثْم إِذَا تَعَمَّدَ الْإِكْثَار ، فَمِنْ ثَمَّ تَوَقَّفَ الزُّبَيْر وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة عَنْ الْإِكْثَار مِنْ التَّحْدِيث . وَأَمَّا مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا وَاثِقِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ بِالتَّثَبُّتِ ، أَوْ طَالَتْ أَعْمَارهمْ فَاحْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدهمْ فَسُئِلُوا فَلَمْ يُمْكِنهُمْ الْكِتْمَان . رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .
- قَوْله : ( فَلْيَتَبَوَّأْ ) أَيْ فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا ، يُقَال تَبَوَّأَ الرَّجُل الْمَكَان إِذَا اِتَّخَذَهُ سَكَنًا ، وَهُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر أَيْضًا ، أَوْ بِمَعْنَى التَّهْدِيد ، أَوْ بِمَعْنَى التَّهَكُّم ، أَوْ دُعَاء عَلَى فَاعِل ذَلِكَ أَيْ : بَوَّأَهُ اللَّه ذَلِكَ . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْأَمْر عَلَى حَقِيقَته ، وَالْمَعْنَى مَنْ كَذَبَ فَلْيَأْمُرْ نَفْسه بِالتَّبَوُّءِ وَيَلْزَم عَلَيْهِ كَذَا ، قَالَ : وَأَوَّلهَا أَوْلَاهَا ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ صَحِيح عَنْ اِبْن عُمَر بِلَفْظِ " بُنِيَ لَهُ بَيْت فِي النَّار " قَالَ الطِّيبِيّ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَعْنَى الْقَصْد فِي الذَّنْب وَجَزَائِهِ ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْكَذِب التَّعَمُّد فَلْيَقْصِدْ بِجَزَائِهِ التَّبَوُّء.
٭ وقال في شرح حديث أبي هريرة :
- وَقَدْ اِقْتَصَرَ مُسْلِم فِي رِوَايَته لَهُ عَلَى الْجُمْلَة الْأَخِيرَة وَهِيَ مَقْصُود الْبَاب ، وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُؤَلِّف بِتَمَامِهِ وَلَمْ يَخْتَصِرهُ كَعَادَتِهِ لِيُنَبِّه عَلَى أَنَّ الْكَذِب عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَوِي فِيهِ الْيَقَظَة وَالْمَنَام . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم . فَإِنْ قِيلَ : الْكَذِب مَعْصِيَة إِلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الْإِصْلَاح وَغَيْره ، وَالْمَعَاصِي قَدْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ ، فَمَا الَّذِي اِمْتَازَ بِهِ الْكَاذِب عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَعِيد عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى غَيْره ؟ فَالْجَوَاب عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ الْكَذِب عَلَيْهِ يَكْفُر مُتَعَمُّده عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم ، وَهُوَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ، لَكِنْ ضَعَّفَهُ اِبْنه إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ بَعْده ، وَمَالَ اِبْن الْمُنِير إِلَى اِخْتِيَاره ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَاذِب عَلَيْهِ فِي تَحْلِيل حَرَام مَثَلًا لَا يَنْفَكّ عَنْ اِسْتِحْلَال ذَلِكَ الْحَرَام أَوْ الْحَمْل عَلَى اِسْتِحْلَاله ، وَاسْتِحْلَال الْحَرَام كُفْر ، وَالْحَمْل عَلَى الْكُفْر كُفْر . وَفِيمَا قَالَهُ نَظَر لَا يَخْفَى ، وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُر إِلَّا إِذَا اِعْتَقَدَ حِلّ ذَلِكَ . الْجَوَاب الثَّانِي أَنَّ الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة وَالْكَذِب عَلَى غَيْره صَغِيرَة فَافْتَرَقَا ، وَلَا يَلْزَم مِنْ اِسْتِوَاء الْوَعِيد فِي حَقّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ كَذَبَ عَلَى غَيْره أَنْ يَكُون مَقَرّهمَا وَاحِدًا أَوْ طُول إِقَامَتهمَا سَوَاء ، فَقَدْ دَلَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَلْيَتَبَوَّأْ " عَلَى طُول الْإِقَامَة فِيهَا ، بَلْ ظَاهِره أَنَّهُ لَا يَخْرُج مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل لَهُ مَنْزِلًا غَيْره ، إِلَّا أَنَّ الْأَدِلَّة الْقَطْعِيَّة قَامَتْ عَلَى أَنَّ خُلُود التَّأْبِيد مُخْتَصّ بِالْكَافِرِينَ ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْكَذِب عَلَيْهِ وَبَيْن الْكَذِب عَلَى غَيْره كَمَا فِي حَدِيث الْمُغِيرَة حَيْثُ يَقُول " إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَد " ...
* وقال في شرح حديث المغيرة
قوله: ( إن كذبا علي ليس ككذب على أحد أي غيري) ومعناه أن الكذب على الغير قد ألف واستسهل خطبه وليس الكذب على بالغا مبلغ ذاك في السهولة وأن كان دونه في السهوله فهو أشد منه في الإثم ...وكذا لا يلزم من اثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أن يكون الكذب على غيره مباحا بل يستدل على تحريم الكذب على غيره بدليل آخر والفرق بينهما أن الكذب عليه توعد فاعله بجعل النار له مسكنا بخلاف الكذب على غيره .
( تَنْبِيه ) :
رَتَّبَ الْمُصَنِّف أَحَادِيث الْبَاب تَرْتِيبًا حَسَنًا لِأَنَّهُ بَدَأَ بِحَدِيثِ عَلِيّ وَفِيهِ مَقْصُود الْبَاب ، وَثَنَّى بِحَدِيثِ الزُّبَيْر الدَّالّ عَلَى تَوَقِّي الصَّحَابَة وَتَحَرُّزهمْ مِنْ الْكَذِب عَلَيْهِ ، وَثَلَّثَ بِحَدِيثِ أَنَس الدَّالّ عَلَى أَنَّ اِمْتِنَاعهمْ إِنَّمَا كَانَ مِنْ الْإِكْثَار الْمُفْضِي إِلَى الْخَطَأ لَا عَنْ أَصْل التَّحْدِيث ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ ، وَخَتَمَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة الَّذِي فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى اِسْتِوَاء تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ سَوَاء كَانَتْ دَعْوَى السَّمَاع مِنْهُ فِي الْيَقِظَة أَوْ فِي الْمَنَام . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ حَدِيث : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ " أَيْضًا مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة وَهُوَ فِي الْجَنَائِز ، وَمِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَهُوَ فِي أَخْبَار بَنِي إِسْرَائِيل ، وَمِنْ حَدِيث وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع وَهُوَ فِي مَنَاقِب قُرَيْش ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ بِلَفْظِ الْوَعِيد بِالنَّارِ صَرِيحًا . وَاتَّفَقَ مُسْلِم مَعَهُ عَلَى تَخْرِيج حَدِيث عَلِيّ وَأَنَس وَأَبِي هُرَيْرَة وَالْمُغِيرَة ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد أَيْضًا ، وَصَحَّ أَيْضًا فِي غَيْر الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُثْمَان بْن عَفَّان وَابْن مَسْعُود وَابْن عُمَر وَأَبِي قَتَادَة وَجَابِر وَزَيْد بْن أَرْقَم ، وَوَرَدَ بِأَسَانِيد حِسَان مِنْ حَدِيث طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَسَعِيد بْن زَيْد وَأَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعُقْبَة بْن عَامِر وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ وَابْن عَبَّاس وَسَلْمَان الْفَارِسِيّ وَمُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَرَافِع بْن خَدِيج وَطَارِق الْأَشْجَعِيّ وَالسَّائِب بْن يَزِيد وَخَالِد بْن عُرْفُطَة وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي قِرْصَافَة وَأَبِي مُوسَى الْغَافِقِيّ وَعَائِشَة ، فَهَؤُلَاءِ [ ثَلَاثَة وَ ] ثَلَاثُونَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَة...
3 *** الكذب على المومنين...
- قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة : 119 )... أمر سبحانه عباده المومنين بتقواه والكينونة مع أهل الصدق ؛ وبما أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فإن قوله : (وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) يفهم منه : ولا تكونوا مع الكاذبين ...
- ولقد بيَّـن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقبة الصدق ورغَّب فيه ، وعاقبة الكذب وحذَّر منه ، فعن...الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا . = رواه مسلم =..
- وفي حديث آخر... عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: الصِّدْقُ... وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ... قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَمَلُ النَّارِ ؟ قَالَ: الْكَذِبُ... إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ...= أحمد =
- عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أنه كَانَ يَقُولُ : لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ كُلُّهُ فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَاذِبِينَ = مالك =
- فمن أراد أن يطمئن فعليه بالصدق...الصدق ثم الصدق ... وليدع الكذب فهو السبيل إلى الشك والإرتياب .. عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ،فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ... وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ... = الترمذي ، وقال : حَسَنٌ صَحِيحٌ =
- أضف إلى هذا أن الكذب خالٍ تماماً من الخير ... روى ماك في الموطأ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ حديث الرجل الذي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْذِبُ امْرَأَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ ...
- فليُتركِ الكذب ...ومن يتركه امتثالاً لأمر الله وطاعةً لرسول الله فيما بيَّن ، فقد ضمِن له بيتاً في النعيم... عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ = أبو داود =
- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا ... = الترمذي
- قال أَبَو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ = أحمد = قلت ، نعم .. إن الكذب مجانب للإيمان ... فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحَةِ ، وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ...
*** ونختم هذه االرحلة المباركة عبر كتاب الله وسنة رسوله ، اطلعنا من خلالها على تحريم الكذب على الله وعلى رسوله والمومنين ، وما جاء فيه من وعيد ، بحديث رواه ابن حبان في صحيحه ، قال : أخبرنا عمر بن محمد الهمداني ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : « ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما تزال في نفسه ، حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة » ...
- كان صلى الله عليه وسلم يبغض الكذب ، لأنه علامة من علامات النفاق ، قال : أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا : مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ...وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا .. = رواه الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا =
تنبيه : لم أتطرق لما فيه رخصة ، لأن ذاك باب آخر ... وأكتفي بإشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم عن حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا ...قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ...
- وحديث أحمد ، قال : عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَابَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَابَعُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ ؟ كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إِلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ رَجُلٌ كَذَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا ....
-وحديث حميد عن أمه رضي الله عنهما رواه الترمذي ، قالت : مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ... كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :لَا أَعُدُّهُ كَاذِبًا الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ يَقُولُ الْقَوْلَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ فِي الْحَرْبِ ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زوجها...
انتهى
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق